زوايا عمياء..
كانت المرّة الأولى التي أجلس فيها خلف مقود السيارة، قبل 11 عاماً بالضبط..في الحصص العشر الأولى أقصى ما كنت أفعله هو تقديم السيارة مترين وإرجاعها مترين..فمبرر المدرّب الباكستاني آنذاك «حسن مير» أن تعتاد رجلي على «الكلاتش» والبنزين..وأن تعتاد يدي على مسك «الجير»..اعرف أنها حجج ضعيفة لابتزازي بأكبر قدر ممكن من الدروس..لكنّي وافقته وقتها دون أدنى اعتراض..
لم يعرني أي انتباه طيلة فترة تدريبي، بسبب التهائه بــ»مسمار لحم» في باطن رجله اليسرى، فور التشغيل،كان يضبط راديو السيارة على محطّة ناطقة بلغة «الأوردو» ثم يرفع رجله اليسرى فوق رجله اليمنى ويحاول ان ينتزع «مسمار اللحم» .»أقوّم السيارة» على الغيار الثالث فأسأله: كيف هيك؟..فيرد دون اهتمام «واجد فنّان»!!..تتأرجح السيارة لضعف السيطرة وأسأله من باب الاطمئنان كيف ترى قيادتي؟؟..فيرد من جديد وهو يحاول خلع مسمار اللحم من مكانه ..»واجد فنان»!!..التفّ من فتحات ممنوعة وأدخل شوارع مغلقة ..اضع الغيار الثاني بدلاً من الرابع، تقفز السيارة ترتجف، يتغيّر صوتها .وأسأله هل من تقدّم؟..فيرد ايضاَ وهو ينبش بسبابته مسمار اللحم..»أووو..انت سواق كبير»..ذات يوم على طريق المطار في دبي كنت أسير بسرعة جنونية، و المسنّ «حسن مير» يجلس جانبي ويمارس ذات الهواية اليومية ..فجأة صادفت اختناقاً مرورياً مكوناً من طابورين طويلين من السيارات لم يكن أمامي الا الاصطدام او محاولة التوقف، دست على الفرامل بشدّة، زعقت السيارة وتصاعد دخان «الكاوتشوك» حتى ملأ المكان، وبالكاد وصلت لآخر سيارة دون أن المسها..ارتطمت نظارات «حسن مير» في الزجاج الأمامي..واستقرّت قدمه اليسرى على صدري بأصابع مفرودة تشبه شارة النصر.. سألته وأنا أقطر خوفاً ورعباً ..ها كيف شفت سواقتي؟.. فرد بنفس مقطوع: « الحين انت..سواق 100%»..ثم قال وقد نسي مسمار اللحم وحليب الأم حتى «انزل أنا لازم ودّي انت بيت»!!..ثم ساق بي السيارة الى بيتي في (البراحة).
برغم ما عانيته مع الرجل و»مسمار لحمه» الذي كنت افحصه يومياً قبل صعودي بسيارته الحمراء القديمة، وبرغم رسوبي خمس مرات في الامتحان العملي الاّ أني احتفظ بنصيحة ثمينة قدّمها لي ذات يوم عندما قال: «النظر في المرآة يفيد فقط عند السير باستقامة، المرايا لا تعطي أبعاداً حقيقية،كما ان هناك زوايا عمياء لا يمكن ان تراها في المرايا فقط ، على السائق المنتبه ان يلتفت برأسه والانحناء بعنقه والنظر بعينه لرؤيتها قبل الانتقال الى مسار آخر أو الالتفاف بالمركبة..ومن لا يفعل ذلك، حتماً فإنه لن يأمن الاصطدام»..حسن مير هذا الباكستاني الطيب البسيط الذي ملّ السياقة والتعليم وعبث بباطن قدمه «راحلته الأخيرة» ..لم يعطني دروساً في السيطرة والتقدم بالمركبة وحسب..بل أعطاني درساً في السلامة والسياسة أيضا..
المرايا مهما صدقت قد تخدع..التفاته بسيطة.. قد تنجي.
للكاتب احمد حسن الزعبي
جريدة الرأي
كانت المرّة الأولى التي أجلس فيها خلف مقود السيارة، قبل 11 عاماً بالضبط..في الحصص العشر الأولى أقصى ما كنت أفعله هو تقديم السيارة مترين وإرجاعها مترين..فمبرر المدرّب الباكستاني آنذاك «حسن مير» أن تعتاد رجلي على «الكلاتش» والبنزين..وأن تعتاد يدي على مسك «الجير»..اعرف أنها حجج ضعيفة لابتزازي بأكبر قدر ممكن من الدروس..لكنّي وافقته وقتها دون أدنى اعتراض..
لم يعرني أي انتباه طيلة فترة تدريبي، بسبب التهائه بــ»مسمار لحم» في باطن رجله اليسرى، فور التشغيل،كان يضبط راديو السيارة على محطّة ناطقة بلغة «الأوردو» ثم يرفع رجله اليسرى فوق رجله اليمنى ويحاول ان ينتزع «مسمار اللحم» .»أقوّم السيارة» على الغيار الثالث فأسأله: كيف هيك؟..فيرد دون اهتمام «واجد فنّان»!!..تتأرجح السيارة لضعف السيطرة وأسأله من باب الاطمئنان كيف ترى قيادتي؟؟..فيرد من جديد وهو يحاول خلع مسمار اللحم من مكانه ..»واجد فنان»!!..التفّ من فتحات ممنوعة وأدخل شوارع مغلقة ..اضع الغيار الثاني بدلاً من الرابع، تقفز السيارة ترتجف، يتغيّر صوتها .وأسأله هل من تقدّم؟..فيرد ايضاَ وهو ينبش بسبابته مسمار اللحم..»أووو..انت سواق كبير»..ذات يوم على طريق المطار في دبي كنت أسير بسرعة جنونية، و المسنّ «حسن مير» يجلس جانبي ويمارس ذات الهواية اليومية ..فجأة صادفت اختناقاً مرورياً مكوناً من طابورين طويلين من السيارات لم يكن أمامي الا الاصطدام او محاولة التوقف، دست على الفرامل بشدّة، زعقت السيارة وتصاعد دخان «الكاوتشوك» حتى ملأ المكان، وبالكاد وصلت لآخر سيارة دون أن المسها..ارتطمت نظارات «حسن مير» في الزجاج الأمامي..واستقرّت قدمه اليسرى على صدري بأصابع مفرودة تشبه شارة النصر.. سألته وأنا أقطر خوفاً ورعباً ..ها كيف شفت سواقتي؟.. فرد بنفس مقطوع: « الحين انت..سواق 100%»..ثم قال وقد نسي مسمار اللحم وحليب الأم حتى «انزل أنا لازم ودّي انت بيت»!!..ثم ساق بي السيارة الى بيتي في (البراحة).
برغم ما عانيته مع الرجل و»مسمار لحمه» الذي كنت افحصه يومياً قبل صعودي بسيارته الحمراء القديمة، وبرغم رسوبي خمس مرات في الامتحان العملي الاّ أني احتفظ بنصيحة ثمينة قدّمها لي ذات يوم عندما قال: «النظر في المرآة يفيد فقط عند السير باستقامة، المرايا لا تعطي أبعاداً حقيقية،كما ان هناك زوايا عمياء لا يمكن ان تراها في المرايا فقط ، على السائق المنتبه ان يلتفت برأسه والانحناء بعنقه والنظر بعينه لرؤيتها قبل الانتقال الى مسار آخر أو الالتفاف بالمركبة..ومن لا يفعل ذلك، حتماً فإنه لن يأمن الاصطدام»..حسن مير هذا الباكستاني الطيب البسيط الذي ملّ السياقة والتعليم وعبث بباطن قدمه «راحلته الأخيرة» ..لم يعطني دروساً في السيطرة والتقدم بالمركبة وحسب..بل أعطاني درساً في السلامة والسياسة أيضا..
المرايا مهما صدقت قد تخدع..التفاته بسيطة.. قد تنجي.
للكاتب احمد حسن الزعبي
جريدة الرأي
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي