الرئيسية
أحدث الصور
من طرف من بلاد الضاد عراقية الإثنين أبريل 12, 2010 2:40 amأيميل على موقع ياهو
كلشان البياتي
الإهداء:إليك أينما تكن الساعة
حصلت على البريد الإلكتروني، وصار لي أكثر من (أيميل)، طلبت من علي-الصبي الذي يبلغ العاشرة من العمر وهو زبون دائم في المركز أن يطلعني على كل أسرارا وخفايا الانترنيت..
بعد أيام وجيزة،قال لي مدير المركز:لم أتوقع منك كل هذا، أنت امرأة بارعة وجميلة وتتقنيين تعلمّ اتصال(النت)بسرعة.
شعرت بشيء من الاطمئنان والراحة عندما أنجزت فتح(الأيميل)، وداعبتني النشوة وانا عائدة إلى المنزل..
قلت في سري:صار لي أيميل وصندوق لأستلام الرسائل، وصار بأمكانه أن يرأسلني.
بدأت أتردد إلى مراكز الانترنيت وصرت زبونة رئيسية في كل المراكز، ارتبطت بعلاقة حميمة مع كل عمالها، أتردد إلى مركز، فإذا لم يعجبني سرعة الاتصال فيه- اذهب إلى الأخر..
أستيقظ من النوم باكرا، أشرب فنجان قهوة، أستقل سيارتي وأتجه إلى مراكز الانترنيت التي لم تكن تفتح أبوابها قبيل العاشرة صباحا، لكن المشرفون عليها شرعوا يفتحون في الثامنة مع بدء دوام الموظفين في المدينة..
أستقل جهاز حاسبة وأفتح الأيميل مباشرة، أحركّ المؤشر باتجاه صندوق الرسائل وأجدها فارغة، أبقى جالسة وعيناي تراقبان الصندوق، وصفحة الأيميل تبقى على حالها..
اكتب رسالة مقتضبة،أخبركّ فيها أني اكتشفت الأيميل بعد رحيلك وسفرك المفاجئ، وكانت فكرة أيجاد وسيلة اتصال بك- تؤرقني كثيرا.
بعد الحرب، حدث انهيار في علاقتنا الاجتماعية، تشتتنا وفرقتنا مدن وأماكن، تغيرت عناوين وأرقام هواتف،وانشغل كل واحد منا يبحث عن ملاذ امن بعيد عن أزيز طائرة،أو إحداثية هاوون أو مدفع، صاروخ يستهدفك وأنت جالس في البيت، وتستهدفك عبوة ناسفة وأنت تسير في شارع، تتعرض إلى خطف أو تسليب وأنت تمشي، هذه هي الحرب، محظوظ إذا خرجت من أتونها سالما.
فقدت أثرك بعد انتشار قوات الاحتلال في عموم البلاد، وأضعت الكثير من الأصدقاء، وكنت أعثر عليهم بالصدفة، ويعثرون على أثري بالصدفة. تيقنت انك قررت السفر والعيش في مكان لا تقع عيناك على جندي أجنبي يقتحم أبواب بيوت أو يدخل من النافذة مثل اللص..
شغلني فراقك وكنت اهرب إليك من ما يحدث حولي ،ابحث عنك حين تحوم الطائرات بصوتها المزعج فوق سماء المدينة بحثا عن مقاومين استهدفوا رتلا في مكان ما، اهرب من وضع المعيشة الصعبة وابحث عنك في وجوه ناس اقتحموا المدينة قادمين من مدن أخرى- تجري فيها عمليات قتالية، ابحث عنك في وجوه جنود مدججين بالسلاح، يوقفني أحدهم حين يكتشف أني ادقق النظر في وجهه:- آسفة أخي ظننتك عمر..!
أخبرني صبي يبلغ العاشرة من العمر أني أستطيع كتابة رسالة إليك ويمكنني إرسالها دون الاستعانة بحمام الزاجل الذي هجر هو الأخر سماء المدينة بعد اكتساح طائرات أمير كية محتلة- أماكن كثيرة منها بحيث لم تعد الطيور تطيق التحليق معها فخافت هي الأخرى وهجرت وبقيت سماء المدينة بلا طيور، كما هاجرت أنت ورحل غيرك ممن لم يعجبهم الوضع المتردي.
أعجبني ذكاء الصبي وقدرته على التقاط الأحداث بسرعة ووجدته موسوعة في الانترنيت ووجدت نفسي أنجذب إليه بعد أن أرشدني إلى اقصر طريق ممكن أن اسلكه للوصول إليك.
دخلت مدرسة هذا الصبي وصار هو الأستاذ وأنا التلميذ أتدرب على يديه فنون الانترنيت مقابل أكياس البطاطس والجبس وبعض أنواع الحلويات -يمضغها وهو يشرح لي طريقة فتح الأيميل وكتابة الرسائل.
قال لي الصبي وهو يلتقط أخر قطعة من كيس البطاطس وبعد أن كنت قد انتهيت من كتابة رسالة إليك:-خالة، انك لاتستطعين إرسال الرسالة إلى صديقك.
قال لي ذلك،وغاد رني فجأة تاركا المكان شاغرا، وبعد أن قضم بأسنانه حبات البطاطس ورمى بكيسها فارغا على الأرض وشعر أني غضبت وعيناي توهجتا من الاحتقان..
عدت أدراجي إلى البيت وشعرت أني فقدتك من جديد،عاودت الرجوع إلى المركز مرة ثانية ووجدت الصبي في مكان قريب منه،ناديت عليه بعد أن اؤمات له بكيس مملوء بالحلويات، هرع نحوي والتقطها من يدي وراح يشرح لي السبب.
-ليس لدى صديقك أيميل.
وكاد أن يهرب من السيارة وانا أقودها في شارع مزدحم-تسير أمامنا رتل أمير كي فخاف من الجندي الذي وجه رأس بندقيته باتجاهه.
قال لي بعد أن شاهد اصفرار وجهي وتجهميّ:
- أنتي لا تملكين أية وسيلة اتصال به، أليس كذلك، لقد رحل بعد الحرب وانتشار قوات الاحتلال الأميركي في شوارع بغداد، ففقدت الاتصال به، ولم يخبرك مكان وجوده، لأنه لم يكن يعرف إلى أين هو متجه.
-نعم، هو كذلك.
-من قال لك ذلك...؟
اشرّ بإصبعه إلى رأسه الصغير وفهمت منه أن رأسه الدائري هو الذي اؤما له بذلك، فضحكت في سري وقلت:-هذا ليس بطفل،هذا شيطان.
وأردف قائلا بعد صمت:- بسيطة جدا.
استدرت باتجاهه وكان الخوف قد رحل عنه بعد أن تيقن أني بحاجة ماسة له ولن أجرؤا على إيقاع الأذى به وكان الرتل قد تحرك من مكانه وأنا لازلت واقفة في مكاني لولا أن نبهتني أجهزة التنبيه في السيارات الأخرى.
- أنتي صحفية، اكتبي مقالا وانشري أيميلك معه.
في غضون ساعة واحدة، كتبت أكثر من عشرين مقالا ووضعت أيميلي نهاية كل مقال..كتبت مقالا سياسيا،واجتماعيا،وثقافيا،ورياضيا وعلميا، جمعت قواي العقلية وبدأت اكتب واكتب، قلت في نفسي:إذ لم يقرأ في صفحة سيقرأ الصفحات الأخرى، أينما يرسل نظراته سيجد مقالا لي تنتهي بأيميل..
أدمنت التردد إلى مراكز الانترنيت، اشغل حاسبة طيلة النهار، صفحة الأيميل مفتوحة خالية من أية رسالة.
أتأمل صندوق الرسائل بشكل غير طبيعي، وعمال المركز منشغلون بالنظر لي، يتهامسون فيما بينهم: يوميا تأتي وتجلس على هذه الحاسبة، تفتح موقع ياهو وتبقى ثابتة عليه ولا تفتح أي موقعا أخر.
مضى شهر وأنا على هذا الحال، أنتظر دون جدوى، في الليلة التي غفوت فيها حالمة:أن رسالة ما قد وصلت إلى الصندوق، جلست طيلة النهار وأنا اقرأ فيها إلى أن جاء احد العمال بكوب من الشاي ووضعه فوق المنضدة وانسحب إلى الإدارة، تناهى صوته إلى أذني وهو يقول لصاحبه:إنها تقرأ في ورقة بيضاء.
-الانتظار مشقة تحتاج إلى طاقة قصوى.
يستولي علي الشعور بالإرهاق.. اكتب إليك رسالة أخرى..حين تغادر مدن الحرب إلى مدن سالمة أمنة، تنسى الجنود والصواريخ وعناوين قديمة ووجوه ناس وأصدقاء, لأنك تبدأ حياة جديدة..هل نسيتني أيضا، هل تتخيل أن امرأة مثلي تشغلها فراق حبيب أكثر من دمار مدن وانهيار معالم وفناء أرواح....؟
اكتب إليك:-لا تخشى شيئا، أنا امتلك أيميل، قل لصديقتك الفاتنة في الغربة:- إنها تمتلك أيميل على موقع ياهو.
تنصرف الأيام والأسابيع والشهور وأنا أتردد إلى مراكز الانترنيت، أتأمل أن تصل منك رسالة، عندما أعود إلى البيت في وقت متأخر من المساء، تستقبلني أمي بكلمات تأنيب:-
تقضين النهار بكامله في مراكز الانترنيت بانتظار رسالة منه، لكنك لا تفكرين بإرسال رسالة إلى جدك الذي مات قبل عشرين عاما..!!!!
كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
» اخر نص ساعة
» اختلاف
» الاحتلال
» رجال كبار
» صراع الحكم في الغابة
» طخ حكي
» جوهرة انتِ
» نخوة العرب
» اداب الحديث