توقُّعنا لا سواه، هو الذي حفّزنا على الجلوس في باب الدار منتظرين عودتهم بعد منتصف الليل، أغصان السروّ اليانعة مشبوكة جيداً على برواز البوابة يتخللها ورق ليمون وأذرع طويلة من «المدّيد» ..
قد يصلون الآن قال أوسطنا ورفع ساقه اليمنى على حجر لتتعامد مع فخذه!! ربما!! قلناها بطرق مختلفة... لا وسيلة اتصال تطمئننا عليهم، ولا دليل على قرب حضورهم غير دليل القلب..
حسبنا الساعات على أصابعنا بناء على معلومات وردتنا من ذوي خبرة، فمنذ الصباح ذهب أفصحنا لساناً الى جارة قريبة أدت الحجّ قبل عامين..سألها : خالة..متى يطلع الحجاج من مكّة؟..قالت :مثل هذا الوقت!! لم تكن اجابتها شافية ..لكنها كفيلة ان تلهي المشتاق قليلاً عن شوقه..بعيد العشاء حفّزنا أفصحنا لساناً ثانية ان يسأل نفس الجارة..ذهب، طرق الباب على استحياء ولأنه صبي فتحت له الباب، فسألها : خالة..فرضاَ لو خرجوا في مثل ذلك الوقت..فمتى سيصلون؟ قالت : في مثل هذا الوقت!!..ثم أغلقت الباب ..نعس أصغرنا،حاولنا جميعاً طرد النعاس عن عينيه باللعب والتشجيع، أمال رأسه قليلاً وبقي يتابع أضواء السيارات التي لا تنقطع..كان يرتدي لباس العيد، في حركة لا تخلو من اللؤم منّا كي نظهر للأم العائدة أن أصغرنا معتنى به أيما عناية..
مضى الوقت بطيئاً، غفا السرو على البوابة واغلق ورق الليمون جفنه قليلاً، بدأ الشارع يتثاقل بحركة المارّين والمركبات .. كل سيارات المرسيدس التي تمرّ من أمام بيتنا متشابهة، لكنها لا تحمل حجّاجنا ..صمتنا، لم نعد نتوقّع أو نتراهن، خفتت جذوة اللهفة..نام الصغير..أطفأ الجيران ضوءهم الذي كنا نستأنس به..فسادت العتمة...قررّنا الدخول ..فلا شيء يدعونا لأن ننتظر أكثر!!...قال أفصحنا لساناً «هه في سيارة»..تقدّم الينا من بعيد ضوء أصفر مستدير، بدأت تقترب..اتضحت معالمها سيارة مرسيدس 190.. تحمل حقائب وأمتعة كثيرة مثل عجوز متعبة....بالفعل لقد أتوا!!!!..لا أدري كيف كان اللقاء، لكنه يشبه موجة داهمت مبتدئاً في السباحة..شهيق وملح في العيون وبكاء وضحك وخوف وشوق.. وكل شيء..
كانت رائحتهم سفرا، وثيابهم احرام محبّة، وضحكاتهم طواف افاضة..تكوّرت قرب أبي المتعب حتى الفجر، رأيته «عبدالله غيث» في فيلم الرسالة، كم كان يشبهه ويشبه صلابته..قبلت يده المالحة ونمت تحتها..
في الصباح فتحت أمي حقائب الهدايا ..اخرجت خاتماً فضياً واسعاً محفورا عليه كلمة «مكة المكرّمة» وثوباً ابيض على مقاسي، وطاقية مقصّبة...ثم اخرجت «كاميرا» حمراء محشوة بصور ثابتة لشعائر الحج...لا زلت الى اللحظة أضع عيني على عدستها وأرى من خلالها شعائر الدنيا كلها...
***
كلما عاد الحجيج في مثل هذا الوقت ..تذكرت وجه أبي، ورائحة فرش الــ 190 المشبع بالبنزين غير الناضج، وقلادة القطين التي عادت مع الحقيبة، والمسبحة العسلية التي تركها ورحل..
***
كلما عاد الحجيج في مثل هذا الوقت، أحرمت ببراءة طفولتي ..وهرولت بين صفا «العمر» ومروة «الذكريات» سبعة أشواق كاملات..
احمد حسن الزعبي
جريدة الرأي
قد يصلون الآن قال أوسطنا ورفع ساقه اليمنى على حجر لتتعامد مع فخذه!! ربما!! قلناها بطرق مختلفة... لا وسيلة اتصال تطمئننا عليهم، ولا دليل على قرب حضورهم غير دليل القلب..
حسبنا الساعات على أصابعنا بناء على معلومات وردتنا من ذوي خبرة، فمنذ الصباح ذهب أفصحنا لساناً الى جارة قريبة أدت الحجّ قبل عامين..سألها : خالة..متى يطلع الحجاج من مكّة؟..قالت :مثل هذا الوقت!! لم تكن اجابتها شافية ..لكنها كفيلة ان تلهي المشتاق قليلاً عن شوقه..بعيد العشاء حفّزنا أفصحنا لساناً ثانية ان يسأل نفس الجارة..ذهب، طرق الباب على استحياء ولأنه صبي فتحت له الباب، فسألها : خالة..فرضاَ لو خرجوا في مثل ذلك الوقت..فمتى سيصلون؟ قالت : في مثل هذا الوقت!!..ثم أغلقت الباب ..نعس أصغرنا،حاولنا جميعاً طرد النعاس عن عينيه باللعب والتشجيع، أمال رأسه قليلاً وبقي يتابع أضواء السيارات التي لا تنقطع..كان يرتدي لباس العيد، في حركة لا تخلو من اللؤم منّا كي نظهر للأم العائدة أن أصغرنا معتنى به أيما عناية..
مضى الوقت بطيئاً، غفا السرو على البوابة واغلق ورق الليمون جفنه قليلاً، بدأ الشارع يتثاقل بحركة المارّين والمركبات .. كل سيارات المرسيدس التي تمرّ من أمام بيتنا متشابهة، لكنها لا تحمل حجّاجنا ..صمتنا، لم نعد نتوقّع أو نتراهن، خفتت جذوة اللهفة..نام الصغير..أطفأ الجيران ضوءهم الذي كنا نستأنس به..فسادت العتمة...قررّنا الدخول ..فلا شيء يدعونا لأن ننتظر أكثر!!...قال أفصحنا لساناً «هه في سيارة»..تقدّم الينا من بعيد ضوء أصفر مستدير، بدأت تقترب..اتضحت معالمها سيارة مرسيدس 190.. تحمل حقائب وأمتعة كثيرة مثل عجوز متعبة....بالفعل لقد أتوا!!!!..لا أدري كيف كان اللقاء، لكنه يشبه موجة داهمت مبتدئاً في السباحة..شهيق وملح في العيون وبكاء وضحك وخوف وشوق.. وكل شيء..
كانت رائحتهم سفرا، وثيابهم احرام محبّة، وضحكاتهم طواف افاضة..تكوّرت قرب أبي المتعب حتى الفجر، رأيته «عبدالله غيث» في فيلم الرسالة، كم كان يشبهه ويشبه صلابته..قبلت يده المالحة ونمت تحتها..
في الصباح فتحت أمي حقائب الهدايا ..اخرجت خاتماً فضياً واسعاً محفورا عليه كلمة «مكة المكرّمة» وثوباً ابيض على مقاسي، وطاقية مقصّبة...ثم اخرجت «كاميرا» حمراء محشوة بصور ثابتة لشعائر الحج...لا زلت الى اللحظة أضع عيني على عدستها وأرى من خلالها شعائر الدنيا كلها...
***
كلما عاد الحجيج في مثل هذا الوقت ..تذكرت وجه أبي، ورائحة فرش الــ 190 المشبع بالبنزين غير الناضج، وقلادة القطين التي عادت مع الحقيبة، والمسبحة العسلية التي تركها ورحل..
***
كلما عاد الحجيج في مثل هذا الوقت، أحرمت ببراءة طفولتي ..وهرولت بين صفا «العمر» ومروة «الذكريات» سبعة أشواق كاملات..
احمد حسن الزعبي
جريدة الرأي
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي