حينما جاءَ دوري أخيراً..
بعد انتظارٍ طويلٍ خلف صفٍ لا ينتهي من البشرِ الجائعين للخبز، وللحياة،
كنتُ شاردةً، مسهبة في أحلامٍ فضيّة..
فاجأني صوت بائع الخبز: ياريت لو تستعجلي، ورائك الكثير من المنتظرين!
نظرتُ إليه بشرود صامت، ولم أتكلّم
اتكأتُ على جدارِ حلمي، وتمنيّت لو أقول له: رغيف فرحٍ سيدي، رغيفا أملٍ ونصف!
لكنني لم أقل شيئاً، اكتفيت بذلك التيه الجميل، وبادلته ابتسامة صمتٍ.. وغادرت!
تركت المكان دون شراء الخبز، ما جئتُ خصيصاً من أجلـه..
حينما التفّتُ مواصلةً طريقي، وصلني صوت البائعكـصوت غريق يستنجد: مجنونة!
فهل كنتُ مجنونة حقاً؟
أظن ذلك، فمن ينتظرُ ساعاتٍ لـشراء شيء ، ثم حين يجيء دوره يديرُ ظهره ويغادر ، دون حصوله على ما يريد ، هو مجنون بكل القوانين، وعلى كل المقاييس !
لكن..
ماذا أفعل بكل الحزن المتكدس في قلبي أوهاماً، وبكل تلك الأحلام التي لا تفارق رأسي ، حرمتني حتى النوم
ألا يحقُ لي أن أنظر لكل أولئك البشر المتكومين أمام محلات الخبز كالمجانين؟! يبحثون عن الطعام وليس غيره!
فـ هل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟
ماذا عن وجبات الأمنيات، عن الأفكار والأحلام، النهضة والثورة!
ماذا عن طعم الكتب اللذيذ الذي يبقى في القلب وفي العقل كما لا يبقى شيء!
ماذا عن الحزن؟ وجبتي الملهمة..
فـ من المجنون؟
صرت أسير بلا دربٍ.. أو غاية
تائهة في مدينة نامت مصابيحها مبكراً ، هذا اليوم
وغادرها القمرُ بلا وداع!
وارتصفت أزقتها بأكوام الجائعين ، والمجانين
كنتُ أسرع في مشيي، وأتساءل: لماذا السرعة ولا وجهة محددة لي حتى الآن؟
وما الذي سأقوله لأمي حين أعود للمنزل بلا خبز؟ وكيف سأهرب من ملاحقاتها؟
هل أقول لها أنني كنتُ أحلمُ ونسيت الخبز؟
أأشتري لها كتاباً وأضعه على المائدة وأطلب إليها تناوله؟
أي جنونٍ هذا ..؟
قررت العودة لـ شراء الخبز ، لا أريد لأمي أن تغضب مني، أو تطاردني استسفاراتها..
غيّرت اتجاه سيري وعدت لـ نفس الطريق، نحو بائع الخبز
لأقف أمام بائع الخبز الذي نعتني قبل قليلٍ بالمجنونة، حسناً : سأنفي عن نفسي ذاك النعت
وأثبت له أنني عاقلة، أبحثُ عن الخبز، وليتأكد هو أنني أعاني جنوناً حقيقياً!
فمن ذا الذي يطيق الوقوف خلف كثير من طالبي الخبز مرّتين في الوقت نفسه؟ا
عدتُ ..
و وراء عشرات الأشخاص، بدأ عداد الانتظار بالعمل، ترتفع أصواتهم ، وتزداد حدّة الشتائم ..
هذا يدفع هذا..
وذاك يسبُ الآخر لأنه تجاوزه وتقدّم عليه، ولذا سـ يتعشى مبكّراً قبل غيره ..
وأقفُ أنا .. مرتدية نفس الشرود ،
ولا يقطع عني سفري الحالم، سوى صوت طفل يبيع السجائر: هل تريدين يا سيدة؟
كان صوته جميلاً كالموسيقى ، وملامح وجهه تبوح بتعب ووجع ، أجبته : آسفة ، لا أدخّن
قال : ولم لا تدخنين؟ السجائر تزيل بعض الهموم العالقة بالقلب!
لفت انتباهي كلامه، واحترت كيف أتى به ، قلت : كيف ذلك؟
قال : حين تنفثين دخان السجائر ، تنفثين معها بعضاً من همومك، ثمّ تشعرين بالراحة
ضحكت..
وسألته : أتدرس؟ قال بعد محاولة للهروب من السؤال : تركتُ الدراسة
سألته بأسف : ولمَ؟ الدراسة مهمةٌ في الحياة ، بها تستطيع تحقيق بعض أمنياتك، والحصول على المعرفة ، وحتى المال إن أردت
قال : لا أريدها، حتى أنني لا أجيد القراءة والكتابة ، الجميع يتخرّج ويصبح عاطلاً عن العمل ، أنا أفضلُ منهم ، صغيراً لا زلت، وأكسب مالي بعرقي!
وقبل أن أتكلم.. قاطعني وقال محاولاً التخلص من فضولي وإزعاجي له: إن هذه العلبة آخر علبة سجائر
وأريد شراء عشاءٍ لأمي، هلاّ اشتريتها مني؟
صمتٌ ..
ثم قلت : هاتها سأشتريها ،
أخذتها، وغادر هو وطير السعادة يرفرف فوق رأسه..
وقفت في الشارع.. متعجبة من نفسي ، وأنا هكذا ، أقفُ أحمل علبة سجائر، وانتظر لـ شراء الخبز
ضحكت في أعماقي..
يبدو أن الكثيرين يحيون بالخبز وحده!
لم يطل صبري هذه المرة
ولم انتظر المتدافعين لشراء الخبز
ما يهمني أن ذاك الطفل سيتعشى اليوم
أدرت ظهري عائدة للمنزل ..
حاملةً علبة سجائر.. وبلا خبز!
فمالذي سأقوله لأمي حين أعود؟ وأنا احمل بدل أرغفة الخبز.. علبة سجائر ، سأتحمل بسببها
أسبوعاً من التأنيب واللوم!
لكن ..
صرتُ متأكدة الآن من جنوني ..
فأنا أعترف لهذا البائع أنني مجنونة .. حقاً
بل ..
وما الضيرُ في ذلك ..؟
رحمة الراوي - الجزيرة توك - العراق
بعد انتظارٍ طويلٍ خلف صفٍ لا ينتهي من البشرِ الجائعين للخبز، وللحياة،
كنتُ شاردةً، مسهبة في أحلامٍ فضيّة..
فاجأني صوت بائع الخبز: ياريت لو تستعجلي، ورائك الكثير من المنتظرين!
نظرتُ إليه بشرود صامت، ولم أتكلّم
اتكأتُ على جدارِ حلمي، وتمنيّت لو أقول له: رغيف فرحٍ سيدي، رغيفا أملٍ ونصف!
لكنني لم أقل شيئاً، اكتفيت بذلك التيه الجميل، وبادلته ابتسامة صمتٍ.. وغادرت!
تركت المكان دون شراء الخبز، ما جئتُ خصيصاً من أجلـه..
حينما التفّتُ مواصلةً طريقي، وصلني صوت البائعكـصوت غريق يستنجد: مجنونة!
فهل كنتُ مجنونة حقاً؟
أظن ذلك، فمن ينتظرُ ساعاتٍ لـشراء شيء ، ثم حين يجيء دوره يديرُ ظهره ويغادر ، دون حصوله على ما يريد ، هو مجنون بكل القوانين، وعلى كل المقاييس !
لكن..
ماذا أفعل بكل الحزن المتكدس في قلبي أوهاماً، وبكل تلك الأحلام التي لا تفارق رأسي ، حرمتني حتى النوم
ألا يحقُ لي أن أنظر لكل أولئك البشر المتكومين أمام محلات الخبز كالمجانين؟! يبحثون عن الطعام وليس غيره!
فـ هل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟
ماذا عن وجبات الأمنيات، عن الأفكار والأحلام، النهضة والثورة!
ماذا عن طعم الكتب اللذيذ الذي يبقى في القلب وفي العقل كما لا يبقى شيء!
ماذا عن الحزن؟ وجبتي الملهمة..
فـ من المجنون؟
صرت أسير بلا دربٍ.. أو غاية
تائهة في مدينة نامت مصابيحها مبكراً ، هذا اليوم
وغادرها القمرُ بلا وداع!
وارتصفت أزقتها بأكوام الجائعين ، والمجانين
كنتُ أسرع في مشيي، وأتساءل: لماذا السرعة ولا وجهة محددة لي حتى الآن؟
وما الذي سأقوله لأمي حين أعود للمنزل بلا خبز؟ وكيف سأهرب من ملاحقاتها؟
هل أقول لها أنني كنتُ أحلمُ ونسيت الخبز؟
أأشتري لها كتاباً وأضعه على المائدة وأطلب إليها تناوله؟
أي جنونٍ هذا ..؟
قررت العودة لـ شراء الخبز ، لا أريد لأمي أن تغضب مني، أو تطاردني استسفاراتها..
غيّرت اتجاه سيري وعدت لـ نفس الطريق، نحو بائع الخبز
لأقف أمام بائع الخبز الذي نعتني قبل قليلٍ بالمجنونة، حسناً : سأنفي عن نفسي ذاك النعت
وأثبت له أنني عاقلة، أبحثُ عن الخبز، وليتأكد هو أنني أعاني جنوناً حقيقياً!
فمن ذا الذي يطيق الوقوف خلف كثير من طالبي الخبز مرّتين في الوقت نفسه؟ا
عدتُ ..
و وراء عشرات الأشخاص، بدأ عداد الانتظار بالعمل، ترتفع أصواتهم ، وتزداد حدّة الشتائم ..
هذا يدفع هذا..
وذاك يسبُ الآخر لأنه تجاوزه وتقدّم عليه، ولذا سـ يتعشى مبكّراً قبل غيره ..
وأقفُ أنا .. مرتدية نفس الشرود ،
ولا يقطع عني سفري الحالم، سوى صوت طفل يبيع السجائر: هل تريدين يا سيدة؟
كان صوته جميلاً كالموسيقى ، وملامح وجهه تبوح بتعب ووجع ، أجبته : آسفة ، لا أدخّن
قال : ولم لا تدخنين؟ السجائر تزيل بعض الهموم العالقة بالقلب!
لفت انتباهي كلامه، واحترت كيف أتى به ، قلت : كيف ذلك؟
قال : حين تنفثين دخان السجائر ، تنفثين معها بعضاً من همومك، ثمّ تشعرين بالراحة
ضحكت..
وسألته : أتدرس؟ قال بعد محاولة للهروب من السؤال : تركتُ الدراسة
سألته بأسف : ولمَ؟ الدراسة مهمةٌ في الحياة ، بها تستطيع تحقيق بعض أمنياتك، والحصول على المعرفة ، وحتى المال إن أردت
قال : لا أريدها، حتى أنني لا أجيد القراءة والكتابة ، الجميع يتخرّج ويصبح عاطلاً عن العمل ، أنا أفضلُ منهم ، صغيراً لا زلت، وأكسب مالي بعرقي!
وقبل أن أتكلم.. قاطعني وقال محاولاً التخلص من فضولي وإزعاجي له: إن هذه العلبة آخر علبة سجائر
وأريد شراء عشاءٍ لأمي، هلاّ اشتريتها مني؟
صمتٌ ..
ثم قلت : هاتها سأشتريها ،
أخذتها، وغادر هو وطير السعادة يرفرف فوق رأسه..
وقفت في الشارع.. متعجبة من نفسي ، وأنا هكذا ، أقفُ أحمل علبة سجائر، وانتظر لـ شراء الخبز
ضحكت في أعماقي..
يبدو أن الكثيرين يحيون بالخبز وحده!
لم يطل صبري هذه المرة
ولم انتظر المتدافعين لشراء الخبز
ما يهمني أن ذاك الطفل سيتعشى اليوم
أدرت ظهري عائدة للمنزل ..
حاملةً علبة سجائر.. وبلا خبز!
فمالذي سأقوله لأمي حين أعود؟ وأنا احمل بدل أرغفة الخبز.. علبة سجائر ، سأتحمل بسببها
أسبوعاً من التأنيب واللوم!
لكن ..
صرتُ متأكدة الآن من جنوني ..
فأنا أعترف لهذا البائع أنني مجنونة .. حقاً
بل ..
وما الضيرُ في ذلك ..؟
رحمة الراوي - الجزيرة توك - العراق
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي