القدس العربي
ست سنوات من الجمر بالعراق
يحيى اليحياوي
24/04/2009
كلما حلت ذكرى الغزوة الأنكلوأمريكية الكبرى للعراق، بالعشرين من اذار (مارس) من العام 2003، إلا وتبددت لنا أكثر، بالوثائق المتاحة، والحقائق المنجلية من هذا التصريح أو ذاك، ناهيك عن الاعترافات الرسمية المباشرة، أقول إلا وتبددت لنا أكثر هشاشة المسوغات التي على خلفيتها شنت الغزوة، وبطلان الحجج التي على أساسها زج الأمريكان والإنكليز بمئات الآلاف من الجنود لغزو بلاد الرافدين، ثم احتلالها، ثم مصادرة القرار من بين يدي أصحابها وسكانها الأصليين.
لم يعثر الأمريكان على أدنى ذرة من أسلحة الدمار الشامل، التي لطالما أكدوا على توافرها، لدرجة عرض وزير خارجية أمريكا حينئذ بمجلس الأمن، لشاحنات عسكرية عراقية وهي تحرك ذات 'الأسلحة' من موقع إلى موقع، أو تموه على مواقع تواجدها، أو تتستر على منشآتها بهذه الطريقة أو تلك.
ولم يقم الأمريكان، وهم بعين المكان حاكمين آمرين، لم يقيموا الحجة على توفر العراق على القدرة لإنتاج أسلحة نووية متى شاءوا (أي بأقل من ساعة متى عن لهم ذلك)، كما ذهب إلى ذلك رئيس وزراء بريطانيا، عندما كان قرار الحرب قد اعتمد، ولم يبق من الترتيبات إلا تهيئة المناخ العام، بالداخل كما بالخارج.
ولم ينجح الأمريكان في إقامة الدليل على وجود علاقة تنسيق ما، بين نظام الرئيس/الشهيد صدام حسين وتنظيم القاعدة، الذي نفذ ضربتي الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) للعام 2001، والتي بالارتكاز عليها شنت 'الحرب العالمية على الإرهاب'، بمسوغ مباشر واضح كما الحال بأفغانستان، أو دونما اللجوء لامتطاء ناصية هذا المسوغ أو ذاك، لاستباق ضربات محتملة، قد تأتي من هنا أو هناك، وتأكيدا، يقول الأمريكان، من العراق.
كلها كانت شكوك وتخيلات تحولت، بفعل قوة آلة التضليل الإعلامية وماكينة الكذب، المروج له من بين ظهراني بيوت الاستشارات والعلاقات العامة، ومراكز البحوث الدائرة في فلك المحافظين الجدد، الناصحين لهم، المؤثرين في طبيعة قراراتهم. هي مستويات دفعت بالمسوغات أعلاه، حتى إذا ما تأكد لهم أنها هشة وغير قائمة، دفعوا بأخرى أكثر إغراء وأبلغ أثرا، كالقول بإزاحة الديكتاتورية من العراق، أو الزعم ببسط مبادئ الحرية والديمقراطية، أو بما سوى ذلك.
لم يعر الأمريكان كبير اعتبار لمعارضة أعضاء وازنين بالأمم المتحدة، ولا اكترثوا بعشرات المظاهرات هنا وهناك، وبالداخل الأمريكي تحديدا، بل تجاوزوا على كل ذلك جملة وبالتفصيل، وذهبوا للحرب منفردين، حتى إذا ما تمكنوا من بعض مفاصل البلاد، بدأوا في مباشرة ما كانوا مرتبين له من سياسات وخطط وترتيبات.
أسقط نظام الحكم، وحل الجيش ومرافق الأمن الأخرى، وأقيم مجلس للحكم، وزع فيما بين أعضائه وأتباعه غنيمة السلطة والثروة، وسن دستور مؤقت ثم دستور دائم، وعمد إلى انتخابات أفرزت اصطفافا طائفيا ومذهبيا وعرقيا مقيتا، لا بل وإلى تقسيم عملي للبلاد، بين ثلاث مناطق يحكمها بالشمال عنصر العرق الصرف، فيما يحكم بالجنوب والوسط عنصر الطائفة والمذهب، الكل ضمنها يحتكم إلى ميليشيات وحرس وقوى أمن ووسائل حماية ومنابر إعلامية وفضائيات وما سواها، وبات حكام العراق الجدد كما لو أنهم حقا وحقيقة، ملوك للطوائف جدد، بالقياس إلى أولئك الذين مروا، ذات زمن، على الأمة الإسلامية في سياق تراجع مدها ونفوذها ووحدة أراضيها.
لم يفرز ذات الواقع مستجدا إيجابيا يذكر، بقدر ما أفرز حربا أهلية، تقتل الميليشيات بموجبها على خلفية من المذهب أو الطائفة، أو لمجرد الثأر من هذه القبيلة أو العشيرة أو العائلة، تحت مبرر أنها كانت مقربة من النظام السابق، أو أن لها ارتباطات محددة مع هذا الفصيل أو ذاك. فباتت الجثث المجهولة متناثرة بقارعة الطرق، أو عائمة فوق مياه دجلة والفرات، واستبيحت مرافق الدولة وثرواتها، وتكونت هنا وهناك عصابات في النهب والاغتصاب، وبات العراق كما لو أن الكل من بين ظهرانيه مع الكل ضد الكل.
بصلب كل ذلك، أقيمت المحاكم، وتعددت السجون والمعتقلات، ورفعت حبال المشانق عاليا، لشنق رئيس شرعي يوم عيد جلل، ثم لإعدام بعض من رفاقه، فيما اختلقت الدلائل والحجج لإدانة من تبقى من عناصر نظام الرئيس/الشهيد، كما لو أن النظام إياه كان نظام قتل وإجرام، لا فضل له بالمرة على العراق.
وبصلب كل ذلك أيضا تم تهجير الملايين من السكان، ودفع بملايين أخرى للنزوح داخل العراق وخارجه، واغتيل العلماء والتقنيون وأساتذة الجامعات والطيارون والمحامون، وقطعت أوصال المدن بالجدران الإسمنتية وبالأسلاك الشائكة، وبات الحجر والبشر والشجر في مرمى آلة القتل العشوائية، من لدن الأغراب كما من لدن ذوي القربى سواء بسواء. كل ذلك تم بوتائر اشتدت تارات وخفت تارات أخرى، لكن منسوبها لم ينقطع يوما، ولا يزال الخيط الناظم لسنوات الجمر الست الماضية.
إذا كان الاحتلال الأمريكي قد نجح في شيء ببلاد الرافدين، فقد نجح بالأساس في تقويض أسس الدولة العراقية، وتأليب أبنائها على بعضهم البعض، وإشاعة البغضاء والكره فيما بينهم، وتحويل أعزتها إلى منبوذين، مهمشين، لا يلوون على شيء. وإذا كان ذات الاحتلال قد نجح في شيء آخر، ففي تقسيم البلاد عمليا إلى ثلاث مناطق جغرافية، لا يخفي القسم الشمالي منها نيته في الانفصال عن الوطن/الأم، عندما تسنح الظروف السياقات المؤاتية ، ولا ينفي الجزء الجنوبي منها، عزمه على السير على ذات المنوال، في إطار ما بات يسمى منذ مدة بفدرالية الأقاليم والمحافظات. وعلى الرغم من تراجع منسوب العنف بالشهور الأخيرة، جراء نجاح الأمريكان في إقامة مجاميع في الصحوة موالية لهم، أو لجان في الإسناد تعاضد القوات الأمريكية في حلها وترحالها، أو بسياق كل ذلك، بسبب تراجع نفوذ ميليشيا الرعب (بعدما قضم نفوذ مقتدى الصدر، وتقزم دور فيلق بدر وما سواهما)، فإن الثابت على أرض الواقع إنما تزايد مد المقاومة العراقية وتصلب عودها، وتزايد الضربات التي توجهها لقوات الاحتلال، كما للحكومة العميلة له ببغداد على حد سواء.
لم تأبه المقاومة العراقية بالوعود من هنا أو من هناك لوضع سلاحها، والاندماج في عملية سياسية باهتة. ولم تثق في أسس فعل سياسي مرتكز على الطائفية والمذهبية، تثوي خلفه حكومة نصبها الاحتلال، وحدد لها الخطوط الحمراء، التي لا مجال للاقتراب منها، وأطرها باتفاقية أمنية وقعتها ذات الحكومة مع جورج بوش الإبن، وهو على أهبة مغادرة السلطة.
لقد قلنا في حينه وكررنا القول بأكثر من منبر، بأن الأمريكان، وفق هذه الاتفاقية، لم يعمدوا إلى جدولة الانسحاب من العراق إيمانا منهم بتحقق المراد حالا ومآلا، أو ثقة منهم في استتباب الأمن بالبلاد، بل لأن بقاءهم غدا يوما عن يوم مرهقا ومكلفا، بحسابات المال كما بحسابات الخسائر في البشر.
وقلنا أيضا بأن وصول باراك أوباما للسلطة لن يغير كثيرا من المعطيات على الأرض، وأنه سرعان ما سيتماهى مع ما سنه سلفه، بخصوص ضمانات الانسحاب وما بعد الانسحاب، التي تحددها مراكز القوة والنفوذ... هنالك بأمريكا.
وقلنا فوق كل هذا وذاك، بأن المقاومة العراقية لن تتوانى في ضرب الاحتلال وهو منسحب، ولن تتوانى في مطاردة الفريق القادم معه من على ظهور الدبابات، حتى وإن تخفى كالجراد بعواصم العالم، حيث مقار سكناه وهويات جوازات سفره.
باحث وأكاديمي من المغرب
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي