الاهتمام بالنص
في الأثر: "من أصبح والدنيا همه، فرَّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة همه، جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة".
والشاهد هنا مسألة الهم وهو الاهتمام بالشيء والتشاغل به والحرص عليه ومعايشته.
إن الاهتمام أن ينصهر قلبك بحب ما تصبوا إليه، ويضطرم فؤادك بقضيتك، وتتألّق نفسك بمرادك، تفكّراً... تأملاً... اهتماماً... معايشة... التفاتاً بالكلية بحيث يستغرق هذا الأمر لُبّك، وخواطرك، وواردات نفسك، فتكون كالمذهول بهذا الشيء، المغرم بذكره المشغوف به دائماً.
وإن تعجب فعجب اهتمام المحدِّثين الأوائل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً، وحفظاً، ومدارسة، ورواية ودراية حتى ذهبت فيه الأعمار والأموال واستعذب في سبيله العذاب، وحسي من أجله كأس الضنا، فهذا يجوب الأقطار، ويركب الحمار، ويمتطي القفار، ممزق الثياب، حافي القدمين، جائع البطن، طافئ الكبد، ذابل الشفة، همّه أين يسمع كلمة (حدَّثنا) أو (أخبرنا)، حتى إن أحدهم سمع كلمة حدثنا وهو في مرض الموت فقال: أجلسوني. فأجلسوه فتمثل بقول الأول:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... جـبال مـا سُقـيت لغنّـت
ومحدِّث آخر يقرأ كتابه، فيغيب بذهنه، وفكره، ومشاعره، عن أهله، وهو معهم جالس لكن فؤاده ارتحل، ولبّه انتقل:
هجرنا، ونام الركب، والليل مسرف .... وما نمت عن ذكراك يا أعذب المنى!
إن في قلب الواحد منهم لوعةً عارمة، واضطراماً هدّاراً، وحرقة هائلة، لأنهم ذاقوا الحديث، وأحبوه حبًّا تذوب له المنهج، ولذلك كان هذا العطاء الضخم المبارك الفيّاض.
إن الاهتمام بالشيء طريق إلى النجاح والتفوّق، ونيل المراد، فالاهتمام يدرك كنه هذا الشيء، سواءً كان علماً، أو عملاً، أو مهنة، أو صناعة، أو أدباً، أو فناً.
ومن أراد أن يبرع في مضمار، وأن يبرز في ميدان، فما عليه إلا أن يختار طريقه، وما يناسب حياته، ومواهبه، وإمكانياته، ثم بعد هذا يولي هذا الطريق همَّه؛ بل حياته، فيتفاعل، ويثابر، ويجدُّ، ويعطي حتى يحصل على ما أراد.
إن الفاشلين في العالم هم الذين لا يعلمون من المعرفة إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون، لم يجدوا طعم اليقين، ولم يشمّوا رائحة المعرفة، ولم يروا أعلام الحقيقة، ليس عندهم إلا ألفاظ بلا معانٍ، وصورٌ بلا حقائق، وقوالب بلا قلوب؛ لأنهم جاءوا إلى العلم ببرود، وذهول، وترهّل، وبلادة، فما التفت لهم العلم، وما منحهم شيئاً لأنهم ليسوا أهلاً له: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) [الأنفال:23] (يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ وآتيناه الحكم صبياً) [مريم:12]. وهي قوة الاهتمام والإعزاز، والإقبال، والاحتفاء.
قوّة اندفاع القلب، وجدية الروح، وتوقد الخاطر بقوةٍ هكذا لا بضعف، لأن الأخذ الضعيف ينتج ثمرة ذابلة، ومحصولاً زهيداً.
وقوله: (والذين يمسِّكون بالكتاب) [الأعراف:170]، هكذا (يمسّكون) فهو الحرص كله، والاهتمام أجمعه، والاحتواء، والتلهّف، فهم يمسّكون بالكتاب الحق، المنـزّل بما فيه من البينات بقلوبهم، بأفكارهم، بأعمالهم، بأقوالهم، بجهادهم، بوقتهم، لا ثمن للتافهين في الحياة، ولا وزن للباردين، إن محلهم في الصفوف الخلفية أبداً، وإن وضعهم الطبيعي في الحضيض، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.
إن أعداء الله المنافقين يصلّون، ولكنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فتورٌ والتواء، وبرودٌ واستخذاء، إن عمل الجادين المثابرين الصادقين حرارة، لأن الوقود همة هناك في القلب وعزيمة في الروح.
إن الذي يأتي إلى كتاب الله العظيم ليحفظه، ويتدبره، ويستفيد منه ثم لا يوليه إعزازاً، واهتماماً، وتعظيماً، وتضحية بالوقت، والفكر، والانتباه، يحصل من هذا المعين المبارك على قدر جهده فحسب، لا وكس، ولا شطط.
أما ذاك المقبل بشوق، التّالي بحب، ذو العاطفة الجيّاشة، والفؤاد المشبوب، والهمة العارمة، والرغبة الملحّة، فلا تسأل كم هي مكاسبه وكنوزه، لأنه صادق في توجهه، مخلص في إقباله، جادٌ في سعيه (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18].
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها .... تنال إلا على جسر من التعبِ
لا ينال خير الدنيا والآخرة إلا بصبر وجهاد، وتضحية وسهاد، وملازمة وإصرار، وهجر للمألوفات، وترك للشهوات، وعكوف على الخدمة.
فالتصدق بنوم الجفن، وإهداء الكرى على الدجى سهلٌ على من خطب أعلى المقامات، وتاق لأرفع الدرجات:
متيمٌ بالندى لو قال عاشقه .... هَبْ لي فديت كرى عينيك لم ينم
ومن أحسن صفات المثابرين تطلعهم الدائم لمرادهم العزيز، وسهرهم في سبل أمنيتهم الغراء، من إصلاح، أو علم نافع، أو عمل مثرم.
إن خسة الطبع توحي لصاحبها بالدعة والخمول، والتثاؤب، وتزين له حب السلامة، ورغد العيش، وطعم البقاء، ولكن في يقظة للعقل، وانتباه للخاطر يعلم المرء مقدار خسارته، وحجم تفريطه.
ما أسرع الزمن، ما أقرب الآتي، ما أكثر التسويف !
ومن علم أن قوله: سبحان الله وبحمده بنخلة في الجنة، فما أعظم غبنه إذا غفل عن التسبيح.
ومن تيقن أنه يُقال لحافظ القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل، فإنَّ منـزلتك عند آخر آية تقرؤها، كيف تنام له عين، أو يغمض له جفن، وهو ما حفظ القرآن كله، وما استظهر المصحف جميعه ؟! نعوذ بالله من رقدة الغافلين اللاَّهين.
د . عائض القرني المصدر موقع الشيخ الدكتور عائض القرني قسم المقالات المتفرقة
لكم مني خالص تقديري واحترامي
في الأثر: "من أصبح والدنيا همه، فرَّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة همه، جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة".
والشاهد هنا مسألة الهم وهو الاهتمام بالشيء والتشاغل به والحرص عليه ومعايشته.
إن الاهتمام أن ينصهر قلبك بحب ما تصبوا إليه، ويضطرم فؤادك بقضيتك، وتتألّق نفسك بمرادك، تفكّراً... تأملاً... اهتماماً... معايشة... التفاتاً بالكلية بحيث يستغرق هذا الأمر لُبّك، وخواطرك، وواردات نفسك، فتكون كالمذهول بهذا الشيء، المغرم بذكره المشغوف به دائماً.
وإن تعجب فعجب اهتمام المحدِّثين الأوائل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً، وحفظاً، ومدارسة، ورواية ودراية حتى ذهبت فيه الأعمار والأموال واستعذب في سبيله العذاب، وحسي من أجله كأس الضنا، فهذا يجوب الأقطار، ويركب الحمار، ويمتطي القفار، ممزق الثياب، حافي القدمين، جائع البطن، طافئ الكبد، ذابل الشفة، همّه أين يسمع كلمة (حدَّثنا) أو (أخبرنا)، حتى إن أحدهم سمع كلمة حدثنا وهو في مرض الموت فقال: أجلسوني. فأجلسوه فتمثل بقول الأول:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... جـبال مـا سُقـيت لغنّـت
ومحدِّث آخر يقرأ كتابه، فيغيب بذهنه، وفكره، ومشاعره، عن أهله، وهو معهم جالس لكن فؤاده ارتحل، ولبّه انتقل:
هجرنا، ونام الركب، والليل مسرف .... وما نمت عن ذكراك يا أعذب المنى!
إن في قلب الواحد منهم لوعةً عارمة، واضطراماً هدّاراً، وحرقة هائلة، لأنهم ذاقوا الحديث، وأحبوه حبًّا تذوب له المنهج، ولذلك كان هذا العطاء الضخم المبارك الفيّاض.
إن الاهتمام بالشيء طريق إلى النجاح والتفوّق، ونيل المراد، فالاهتمام يدرك كنه هذا الشيء، سواءً كان علماً، أو عملاً، أو مهنة، أو صناعة، أو أدباً، أو فناً.
ومن أراد أن يبرع في مضمار، وأن يبرز في ميدان، فما عليه إلا أن يختار طريقه، وما يناسب حياته، ومواهبه، وإمكانياته، ثم بعد هذا يولي هذا الطريق همَّه؛ بل حياته، فيتفاعل، ويثابر، ويجدُّ، ويعطي حتى يحصل على ما أراد.
إن الفاشلين في العالم هم الذين لا يعلمون من المعرفة إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون، لم يجدوا طعم اليقين، ولم يشمّوا رائحة المعرفة، ولم يروا أعلام الحقيقة، ليس عندهم إلا ألفاظ بلا معانٍ، وصورٌ بلا حقائق، وقوالب بلا قلوب؛ لأنهم جاءوا إلى العلم ببرود، وذهول، وترهّل، وبلادة، فما التفت لهم العلم، وما منحهم شيئاً لأنهم ليسوا أهلاً له: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) [الأنفال:23] (يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ وآتيناه الحكم صبياً) [مريم:12]. وهي قوة الاهتمام والإعزاز، والإقبال، والاحتفاء.
قوّة اندفاع القلب، وجدية الروح، وتوقد الخاطر بقوةٍ هكذا لا بضعف، لأن الأخذ الضعيف ينتج ثمرة ذابلة، ومحصولاً زهيداً.
وقوله: (والذين يمسِّكون بالكتاب) [الأعراف:170]، هكذا (يمسّكون) فهو الحرص كله، والاهتمام أجمعه، والاحتواء، والتلهّف، فهم يمسّكون بالكتاب الحق، المنـزّل بما فيه من البينات بقلوبهم، بأفكارهم، بأعمالهم، بأقوالهم، بجهادهم، بوقتهم، لا ثمن للتافهين في الحياة، ولا وزن للباردين، إن محلهم في الصفوف الخلفية أبداً، وإن وضعهم الطبيعي في الحضيض، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.
إن أعداء الله المنافقين يصلّون، ولكنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فتورٌ والتواء، وبرودٌ واستخذاء، إن عمل الجادين المثابرين الصادقين حرارة، لأن الوقود همة هناك في القلب وعزيمة في الروح.
إن الذي يأتي إلى كتاب الله العظيم ليحفظه، ويتدبره، ويستفيد منه ثم لا يوليه إعزازاً، واهتماماً، وتعظيماً، وتضحية بالوقت، والفكر، والانتباه، يحصل من هذا المعين المبارك على قدر جهده فحسب، لا وكس، ولا شطط.
أما ذاك المقبل بشوق، التّالي بحب، ذو العاطفة الجيّاشة، والفؤاد المشبوب، والهمة العارمة، والرغبة الملحّة، فلا تسأل كم هي مكاسبه وكنوزه، لأنه صادق في توجهه، مخلص في إقباله، جادٌ في سعيه (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18].
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها .... تنال إلا على جسر من التعبِ
لا ينال خير الدنيا والآخرة إلا بصبر وجهاد، وتضحية وسهاد، وملازمة وإصرار، وهجر للمألوفات، وترك للشهوات، وعكوف على الخدمة.
فالتصدق بنوم الجفن، وإهداء الكرى على الدجى سهلٌ على من خطب أعلى المقامات، وتاق لأرفع الدرجات:
متيمٌ بالندى لو قال عاشقه .... هَبْ لي فديت كرى عينيك لم ينم
ومن أحسن صفات المثابرين تطلعهم الدائم لمرادهم العزيز، وسهرهم في سبل أمنيتهم الغراء، من إصلاح، أو علم نافع، أو عمل مثرم.
إن خسة الطبع توحي لصاحبها بالدعة والخمول، والتثاؤب، وتزين له حب السلامة، ورغد العيش، وطعم البقاء، ولكن في يقظة للعقل، وانتباه للخاطر يعلم المرء مقدار خسارته، وحجم تفريطه.
ما أسرع الزمن، ما أقرب الآتي، ما أكثر التسويف !
ومن علم أن قوله: سبحان الله وبحمده بنخلة في الجنة، فما أعظم غبنه إذا غفل عن التسبيح.
ومن تيقن أنه يُقال لحافظ القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل، فإنَّ منـزلتك عند آخر آية تقرؤها، كيف تنام له عين، أو يغمض له جفن، وهو ما حفظ القرآن كله، وما استظهر المصحف جميعه ؟! نعوذ بالله من رقدة الغافلين اللاَّهين.
د . عائض القرني المصدر موقع الشيخ الدكتور عائض القرني قسم المقالات المتفرقة
لكم مني خالص تقديري واحترامي
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي