حينما يحظى الأدب بشرف "المقاومة"
2002/05/01
حوار: حسام عبد القادر
حينما تتعاظم الخطوب، وتتدافع التهديدات؛ يتأرجح الكل بين التراجع والانزواء، حيث يؤثر البعض الاستسلام والتماهي في دور الضحية وغلبة الآخر المعتدي، وبين التشبث بالحق والثبات على الموقف المعلن والمختار وهو موقف "المقاومة"، ولو أننا أدركنا ما يعنيه الأدب "الفكرة والإبداع" من تكثيف للخبرة الإنسانية المتناثرة هنا وهناك ومن ذاكرة تحفظ سيرة ومنهج من يكتبون التاريخ بدمائهم لازداد حرصنا على الاقتراب من "أدب المقاومة" ورغبة في التعرف عليه.. مفهومه.. سماته وأثره.
هذا ما تبادر إلى الذهن في حديثنا مع الأديب والناقد المصري "السيد نجم" عضو اتحاد الكتاب المصري وصاحب دراسات هامة عن المقاومة والأدب وعن الحرب كفكرة وإبداع ليبدأ قائلاً: إن أدب المقاومة يسعى لتحقيق أهدافه من خلال التركيز على الظروف الصعبة التي يعيشها الناس، وإبراز الآخر المعتدي الذي يسعى لإضعاف قوتهم"، وليؤكد أن أدب المقاومة هام في خلق الوعي والفهم للقضية التي تدافع عنها.. فأن تكون عبداً واعياً لعبوديتك أفضل من أن تكون عبداً جاهلاً سعيداً، وهو إنما يحث على العمل لإعلاء القيم العليا بين الناس؛ فهو ليس التعبير عن صراع "الأنا" الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها، بل هو أعمق من ذلك؛ إذ يعبر عن "الأنا" الواعية بذاتها وذوات الآخرين من جماعتها لتحقيق أهداف مشتركة؛ فأدب المقاومة هو الأدب الذي يرسخ لقواعد الوجود الإنساني الحق في مقابل الحياة التي تقوم على الصراع "العدواني" بدوافع الاقتناء والجشع والهيمنة.
المقاومة.. فهم غير مدرسي
** ولكن ما هو دور الوعي لإنجاز المقاومة بمعناها الواسع؟
- لعل أشد ما نحتاج إليه (أفراداً وجماعات) لإنجاز المقاومة بهذا المعنى هو الوعي، لكن السؤال : الوعي بماذا؟ حيث تبدو ملامح الصراع السياسي/ الاقتصادي/ العسكري منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن ذات أبعاد انفعالية متباينة التأثير على الأفراد العادية ولنقل على جموع الناس، أما ما نبحث عنه ويعنينا فهو الوعي بالصراع الثقافي الذي قد يبدو في خلفية الصراعات الأخرى، وأظن أنه نقطة الانطلاق إلى محاولة فهم دلالة غير مدرسية لمعاني المقاومة، والوعي الثقافي هو الذي يحدد لنا حجم العدو وإمكاناته وحيله، وفي المقابل إمكاناتنا وقدرتنا على المواجهة دون إفراط أو تفريط، إنه يدعم أسس البناء اللازم للحد الأدنى من التعامل الناجح مع الآخر العدواني.
لقد كان لشيوع شعار "ثقافة السلام" خلال العقد الماضي ما يجعلنا نقترب من تحقيق الهدف.. ألا وهو فهم دلالة الوعي الثقافي والمقصود منه بالنظر إلى الشعار، وكيف تم التعامل معه مع إبراز أهمية الثقافة واستخدامها الواعي؟! وتحت عباءة هذا الشعار حققت إسرائيل منجزات خطيرة ما كانت تتحقق لها في ظل الحروب، لقد استطاعت أن تحقق في السنوات العشر الأخيرة ما لم تحققه في الأربعين سنة السابقة عليها من تاريخ دولتهم بتوظيف واعٍ في المنابر الدولية وعلى كل الساحات، لقد حصلت على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة على عدم اعتبار "الصهيونية" حركة عنصرية بل احتفلت اليونسكو (وهي إحدى مؤسسات الأمم المتحدة) بالعيد المئوي لمؤتمر "بال" بسويسرا وهو المؤتمر الذي تشكلت عنه كل المخططات التنفيذية لإنشاء دولة لليهود، وكانت إسرائيل.
ولكن أن ترعى إسرائيل الثقافة بالمعنى الشامل وتوظفها، فتنشئ عام 1997 جامعة عالمية بمدينة موسكو لتدريس المنجز التاريخي والديني والعلمي لليهود وتلقنه لكل قوميات العالم، فهو ما يستحق التأمل، ثم أن يحرص رئيس وزرائهم "نتنياهو" على مقابلة الأدباء والمفكرين في مصر أثناء إحدى زياراته إلى القاهرة فهذا مؤشر له دلالته التي لا يمكن أن نغفلها.
إنها الثقافة وتوظيفها.. إنه الوعي المطلوب؛ فالثقافة وحدها هي القادرة على صنع الإنسان بكل مفاهيمه وقيمه بل وقدرته المقاومية في مواجهة الآخر، ولن أحصر حديثي عن الصراع العربي الإسرائيلي –على أهميته-؛ فالمقاومة بالمعنى الشامل تتغلغل في سلوكيات الحياة اليومية للأفراد، وحتى مواجهات الشعوب تبدأ بالوعي بالذات وبالآخر، وليس لذلك نهاية؛ لأن "المقاومة" تتجدد في أطرها وتشكلاتها.
السيد نجم
ويضيف السيد نجم عن الوعي قائلاً: الوعي هو المحرك للمعرفة المتزايدة والمتوارثة والخاضعة للحذف والإضافة؛ فهي ليست هكذا آلية الحركة؛ بل قادرة على إعادة تشكيل نفسها بفعل "الوعي" الذي هو مبعث المعرفة، ولا يبقى إلا استخدامه، وتحويله إلى طاقة قادرة على التحريك.
لقد تبنى المبدعون دائماً الهدف "أدب المقاومة" حتى قبل أن ينحت المصطلح، ومنذ أن اعتلى الشعراء الناس في الأسواق، واقتحموا مجالس الخلفاء، وشاركوا في مسامرات الناس، واعتلوا منابر الأعلام الحديثة.. وإلى ما شاء الله، وليس هذا من قبيل التعميم وشيوع الملامح، وبالتالي الأهداف، لكن من قبيل التأكيد على أن المقاومة تبدأ بالمعرفة الديناميكية بفعل الوعي. أليست "المقاومة" في جوهرها "ثقافة" تسعى لدعم الذات الجمعية في مواجهة الآخر العدواني؟!
بعيداً عن الخلاص الفردي
** وما هي سمات المقاومة في الأدب العربي المعاصر؟
- إن النظرة السريعة لمعطيات الأدب العربي المعاصر تؤكد على خصب الحياة الثقافية العربية؛ فالمنجز الأدبي في القرن العشرين وحده يفوق المنجز التاريخي الأدبي العربي، ولمَ لا وقد تعددت الوسائل التثقيفية والإعلامية والفنية من كتب مطبوعة وإلكترونية ودوريات وصحف مطبوعة وإلكترونية، فضلا عن نشأة فن الرواية والسينما والمسرح وغيرها؟
وهنا ربما يمكن تقديم محاولة لتعريف خاص لأدب المقاومة: هو "الأدب المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) و(المتطلعة إلى الحرية) في مواجهة الآخر المعتدي، على أن يضع الكاتب نصب عينيه.. جماعته/ أمته محافظاً على كل ما تحفظه من قيم عليا".
ولا تعني الحرية معنى الخلاص الفردي، وفي هذا التحديد ما يميز أدب المقاومة عن غيره؛ حيث يقول البعض: إنه كل أدب يدعو إلى المقاومة بمعنى ما. فأدب المقاومة هو الأدب المعبر عن الذات الجمعية.
** وماذا عن التجربة الحربية في أدب المقاومة؟
- تُعد التجربة الحربية من أهم محاور الأدب المقاومة، إن عمر الحرب يكاد يناهز عمر الإنسان على الأرض منذ معركة قابيل وهابيل والصراع قائم ولا يبدو زواله؛ ذاك الصراع الذي غالباً ما ينتهي بالحرب، لم تكن الفنون التي ابتدعها الإنسان إلا لبثِّ روح المقاومة في صراعه مع القوى الأخرى التي تهدده وتعرض كيانه للخطر، لقد تعامل الإنسان مع فكرة الصراع؛ فكانت الأساطير الملاحم والفنون.
إن تجربة الحرب ليس لها مثيل؛ ربما لأن الرجال يشعرون أنهم تخطوا حاجز الموت على الرغم من كل التناقضات التي عاشوها؛ ففي تلك التجربة يصبح الفرد وجها لوجه أمام الموت والحياة، الشراسة والشفقة، الدفاع عن الحياة في مقابل الهلاك، يخوض المحارب هذا مدفوعاً من الجماعة، التي تبارك موته، بينما جُبلت النفس البشرية على حب الحياة، ومع ذلك فمهما كانت التجربة كريهة فإنها تكشف عن الأصيل في حياة الفرد والجماعة، مثل: الشجاعة والإخلاص والفداء والإيثار وغيرها في مقابل الأنانية والغرور والباطل والظلم.
ليست ظاهرة صوتية
** ولكن ما هي أهم خصائص أدب المقاومة، وأهم النماذج التي تمثله؟
- استنتجت هذه الخصائص من خلال دراستي التي نشرتها في كتاب بعنوان: "المقاومة والأدب.. دراسة تحليلية"، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ولخصتها في الآتي:
- التعبير عن الذات الجمعية والهوية.
- إنه أدب الوعي والقدرة على تجاوز الأزمات الشعبية والحروب والاضطهاد والقهر.
- الوعي بالآخر العدواني، وكشف أخطائه وأخطاره من أجل المزيد من الوعي بالذات والهوية.
- إنه أدب إنساني من حيث هو دعوة لتقوية الذات في مواجهة الآخر، وليس دعوة للعدوان.
- تتنوع موضوعات التعبير في أدب المقاومة في التناولات المختلفة -منها تناول موضوعات البطولة في مواجهة الآخر العدواني في الحروب أو في مقابل الظلم والاحتلال- تناولا يتبنى مبدأ الدفاع عن الحياة الفاضلة.. وغيره.
ولعل قصيدة "زهير بن أبى سلمى" "اللامية" ومعلقته الشهيرة من النماذج التي تكشف عن ذاك الأدب الذي يشارك في هموم قبيلته أو أهله مع الحفاظ على القيم العليا، تقع القصيدة في ثلاثة وستين بيتاً، منها هذه الأبيات التي يخاطب فيها المترددين في نبذ الحرب بين قبيلتين من العرب "عبس" و"ذبيان"، وقد طالت لسنوات وسنوات فيقول:
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
يؤخر فيوضع في كتاب فيُدخر
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
وما هو عنها بالحديث المرجَّم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وعلى الرغم من تعدد صور أدب المقاومة في الشعر العربي من إذكاء الثقة بالنفس في حالة الحرب أو الاستعداد لها أو الدعوة إلى الانتماء والتمسك بالهوية أو الافتخار بأيام الانتصارات الكبرى أو الإعلاء من شأن القوة وغيرها.. فإن قيمة نموذج قصيدة "زهير" تشير إلى أن أدب المقاومة لا يعني العنف والصوت الزاعق؛ لأنه أدب إنساني في المقام الأول.
وقد خاض الأدب العربي تجارب شديدة الوطأة أثناء معارك الصليبيين والمغول منذ القرن الخامس الهجري لمدة حوالي أربعة قرون؛ فكانت قصائد الدعوة للجهاد والتغني بما يتحقق من انتصارات، ولا تخلو بعض الأعمال من المراثي تعبيراً عن حزنهم على أبطالهم الذين فقدوا على أرض المعركة، وهناك ما يمكن أن نطلق عليه "القدسيات" تلك الأعمال التي ظلت تتغنى بالقدس.
وربما من المجدي التوقف قليلاً أمام تلك النماذج التي كتبت في أدب المقاومة أثناء هجمة المغول الشرسة، فلم تكن كل تلك القصائد معنية بالحماسة والقتال فحسب، فهناك الأعمال التي ناقشت جوانب فكرية؛ فكانت القصائد التي تبحث في طبيعة الصراع بين المسلمين والمغول؛ فهو في جانب منه صراع بين الإيمان والكفر، فعبر الشاعر عن ذلك بعد انتصار "عين جالوت" في 658 هجرية، فقال:
واستجد الإسلام بعد دحوضه
هلك الكفر في الشام جميعاً
وفى رؤية لشاعر آخر ترجع قوة الغدر القادمة من الشرق إلى ضعف ألمّ بخلافة المسلمين، وقد عبر الشاعر عن ذلك قائلاً:
ما كان من نعم فيهن إكثار
والله يعلم أن القوم أغفلهم
فجاءهم من جنود الكفر جبار
فأهملوا جانب الإسلام إذ غفلوا
بما عدا فيه إعذار وإنذار
يا للرجال لأحدثت تحدثنا
واضح ما يعنيه الشاعر من أن الترف والملذات أدت إلى غفلة الناس عن حقوق الله؛ فكان انتقام الله على يد المغول، وفى جانب ثالث يرى الشاعر أن سبب ما حدث من كارثة هو أن فقد العرب العون فيما بينهم فحلت المصائب. قال "أبو شامة المقدسي" في ختام قصيدته قائلاً:
عليهم يا ضيعة الإسلام
لم يعن أهلها وللكفر أوان
صار مستعصم بغير اعتصام
وانقضت دولة الخلافة فيها
أدب المقاومة إذن هو الكلمة المتأملة التي تبحث عن الأسباب، ولا تبرز الخطأ؛ بل تدعو إلى تعضيد الذات في مواجهة الآخر العدواني؛ فتكثر الأمثلة، وتتعدد الآراء ووجهات النظر، ويبقى أدب المقاومة دوماً تعبيراً عن محاولة الإنسان منذ قديم الزمان وحتى الآن ليبقى صوت الحق في مواجهة الباطل، ليس بتعزيز القدرة على مواجهة الآخر فقط، ولكن بتعزيز الذات (الجمعية) وتعظيم عناصر قوتها.
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي