الضبابية هي سيدة الموقف المصري اليوم. ومع اقتراب الموعد المقرّر لانتخابات الإعادة، تبدو مصر غارقة وسط سيل من الخلافات الدستورية والصراعات القانونية الغامضة. الأحكام القضائية الأخيرة أعادت المصريين إلى زمن فرانز كافكا، حيث جرى، تماماً، تعطيل الآليات القانونية التي تهدف إلى تحقيق عدالة صارمة، إلى درجة أن الأجهزة القضائية تدمّر بطريقة غير متماسكة وعبثيّة الهيكل السياسي المصري.
وأبعد من ذلك، كان إقدام المصريين على انتخاب برلمان غير محدّد موقفه الدستوري، في وقت تمّ تعويض الفراغ بإعلان دستوري يعجّ بالتحفّظات الغامضة بينما سارعت القوى الحزبية لملء الفجوات. وفي الشهور التي تلت سقوط مبارك، بدا أن المحاكم مستعدّة لتسريع التغييرات الثورية، إلا أن العكس بدا صحيحاً في الأشهر الأخيرة.
«تسييس القضاء المصري» كان أبرز العناوين التي طرحها الباحث المتخصص في الشأن المصري ناثان براون، في تقرير نشره معهد «كارنيغي». وتطرق فيه براون إلى الفترة التي أعقبت اندلاع الثورة، حيث صدرت معظم القرارات حينها عن مجلس الدولة (انظر موضوع «الجسم القضائي...» المرفق). وفي العام الماضي أبطلت محاكم مجلس الدولة مجموعة من قرارات الخصخصة وأوقفت برنامج التحرير الاقتصادي، فيما شكّك، حتى من يدعمون القرارات ومنطقها القانوني، في أن الحماسة الثورية و النّصوص الجافّة على السواء شكلا أساس أعمال مجلس الدولة.
وتعمّق الشعور عندما اتّخذ المجلس خطوة اعترضت عليها الجهات السياسية الفاعلة الأخرى: حلّ الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم سابقاً. كانت السلطة التي أكّدتها المحكمة موسّعة بشكل مذهل، لكن لم يتوقّع أحد أن يكون في الموقف ذاته مرة أخرى، لذلك تم حجب الانتقادات حيث اقتصرت على الدوائر القانونية الرّاقية إلى حدّ كبير.
في العام 2012، غامر المجلس بالدخول إلى منطقة أكثر إثارة للخلاف، حيث منح الإعلان الدستوري المؤقت البرلمان سلطة «انتخاب» 100 عضو في هيئة، تسمّى الجمعية التأسيسية، التي كُلّفت بصياغة دستور البلاد. استقرّت الأغلبية في البرلمان على قائمة يهيمن عليها الإسلاميون، جعلت العديد من الجماعات تشعر بأنها مهمّشة أو مستبعدة فيها. وقد أدّى هذا الأمر إلى أن يقاطع غير الإسلاميين الجمعية التأسيسية. وعندما رفع عدد من الجهات الفاعلة دعوى ضد البرلمان بسبب تصرّفاته، تصرّفت محكمة إدارية أدنى على وجه السرعة.
ومن ثم شرعت المحكمة في تقديم تفسير يصعب تصديقه لمفهوم «ينتخب». فالنص الذي أعدّت مسوّدته أصلاً اللجنة التي تم تشكيلها بعد الثورة خوّل البرلمان «اختيار» الأعضاء الـ100، ولكن في مراجعة غير مبرّرة، تم تغيير النصّ النهائي من الإعلان الدستوري الذي صدر في نهاية آذار العام الماضي واستخدام كلمة «ينتخب»، وقد حكمت المحكمة، أن هذه الكلمة تعني أنه كان يفترض بالبرلمانيين اختيار أشخاص آخرين، وليس أنفسهم. وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أن القراءة الجريئة للإعلان الدستوري تُضعف مفهوم الحياد السياسي الذي يعتبر أساسياً للسلطة القضائية. كما لم يتمّ حلّ المسألة كاملة.
هل يتمّ حلّ البرلمان أم يوجه الضربة الأولى؟ كان هذا السؤال الثاني الذي تطرق إليه براون في تقريره، لافتاً إلى عدم اكتفاء مجلس الدولة بنقض أهم قرار للبرلمان حتى الآن، بل دعا أيضاً إلى التشكيك في شرعية البرلمان نفسه. وبعد أن أحال المجلس إلى المحكمة الدستورية العليا في البلاد مسألة دستوريّة القانون، بات بإمكان المحكمة الدستورية العليا أن ترسل، بسهولة، أعضاء البرلمان إلى منازلهم خلال الأشهر القليلة المقبلة.
يرتكز الحكم بعدم دستورية البرلمان على واقع النظام الهجين الذي تم بموجبه انتخاب الهيئة، وهو الذي يعتبر بعض المصريين أنه يميّز بشكل غير دستوري ضد المستقلين سياسيا. عندما ذهب المصريون إلى الانتخابات البرلمانية، اقترعوا ببطاقتين. اقترعوا ببطاقة انتخابية على قائمة حزبية، حيث حدّدت تلك الأصوات نتيجة ثلثي المقاعد في البرلمان، وتم الاقتراع بالبطاقة الأخرى على مرشّحين أفراد، والتي أنتجت ما تبقّى من النواب. أتاح نظام الاقتراع الثنائي، الذي كان نتيجة لصفقة سياسية تمت في اللحظات الأخيرة، لأعضاء الحزب التنافس إما كجزء من القوائم الحزبية أو على المقاعد الفردية.
طلب الإعلان الدستوري للعام 2011 من المحكمة الدستورية العليا مراجعة قانون الانتخابات الرئاسية سلفاً، ويتوقّع بعض المراقبين المطلعين أن تجد المحكمة صعوبة في تجنّب إصدار حكم ضد قانون الانتخابات. مع الإشارة إلى أن لحلّ البرلمان الحالي انعكاسات سياسية حادّة قد تقود المحكمة الدستورية العليا إلى إيجاد سبب لمعارضته. إذ يطرح القضاة والمراقبون القضائيون توقّعات متضاربة حول المسار المحتمل للمحكمة الدستورية العليا.
وإذا حلّت المحكمة الدستورية البرلمان قبل الانتخابات الرئاسية، فستثير الشكوك في أن انقلاباً ناعماً يجري الإعداد له، أما إذا جاء الحكم قبل تشكيل الجمعية التأسيسية، فستكون المحكمة الدستورية العليا قد أدخلت البلاد في عقدة دستورية شائكة للغاية. والإعلان الدستوري يتطلّب أن ينتخب «أول برلمان» الجمعية. وإذا تم حلّ تلك الهيئة قبل أن تعمل، فسيتم إقحام العملية الدستورية برمّتها في حيرة وارتباك أعمق. أما إذا ما انتظرت المحكمة الدستورية العليا إلى ما بعد تشكيل البرلمان مرة أخرى، فيمكن اعتبار المخاطر أقلّ.
وفي الجزء الأخير، تناول براون العلاقة بين المحكمة الدستورية العليا واللجنة العليا للانتخابات والنظام السابق، ففي حين يبدو أن مباراة ليّ الأذرع بين المحكمة الدستورية العليا والبرلمان هي العاصفة الأكثر ترجيحاً في الأفق القضائي، يبدو من غير المحتمل أن تشكّك المحكمة الدستورية في أعمال لجنة الانتخابات الرئاسية.
(«السفير»)
وأبعد من ذلك، كان إقدام المصريين على انتخاب برلمان غير محدّد موقفه الدستوري، في وقت تمّ تعويض الفراغ بإعلان دستوري يعجّ بالتحفّظات الغامضة بينما سارعت القوى الحزبية لملء الفجوات. وفي الشهور التي تلت سقوط مبارك، بدا أن المحاكم مستعدّة لتسريع التغييرات الثورية، إلا أن العكس بدا صحيحاً في الأشهر الأخيرة.
«تسييس القضاء المصري» كان أبرز العناوين التي طرحها الباحث المتخصص في الشأن المصري ناثان براون، في تقرير نشره معهد «كارنيغي». وتطرق فيه براون إلى الفترة التي أعقبت اندلاع الثورة، حيث صدرت معظم القرارات حينها عن مجلس الدولة (انظر موضوع «الجسم القضائي...» المرفق). وفي العام الماضي أبطلت محاكم مجلس الدولة مجموعة من قرارات الخصخصة وأوقفت برنامج التحرير الاقتصادي، فيما شكّك، حتى من يدعمون القرارات ومنطقها القانوني، في أن الحماسة الثورية و النّصوص الجافّة على السواء شكلا أساس أعمال مجلس الدولة.
وتعمّق الشعور عندما اتّخذ المجلس خطوة اعترضت عليها الجهات السياسية الفاعلة الأخرى: حلّ الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم سابقاً. كانت السلطة التي أكّدتها المحكمة موسّعة بشكل مذهل، لكن لم يتوقّع أحد أن يكون في الموقف ذاته مرة أخرى، لذلك تم حجب الانتقادات حيث اقتصرت على الدوائر القانونية الرّاقية إلى حدّ كبير.
في العام 2012، غامر المجلس بالدخول إلى منطقة أكثر إثارة للخلاف، حيث منح الإعلان الدستوري المؤقت البرلمان سلطة «انتخاب» 100 عضو في هيئة، تسمّى الجمعية التأسيسية، التي كُلّفت بصياغة دستور البلاد. استقرّت الأغلبية في البرلمان على قائمة يهيمن عليها الإسلاميون، جعلت العديد من الجماعات تشعر بأنها مهمّشة أو مستبعدة فيها. وقد أدّى هذا الأمر إلى أن يقاطع غير الإسلاميين الجمعية التأسيسية. وعندما رفع عدد من الجهات الفاعلة دعوى ضد البرلمان بسبب تصرّفاته، تصرّفت محكمة إدارية أدنى على وجه السرعة.
ومن ثم شرعت المحكمة في تقديم تفسير يصعب تصديقه لمفهوم «ينتخب». فالنص الذي أعدّت مسوّدته أصلاً اللجنة التي تم تشكيلها بعد الثورة خوّل البرلمان «اختيار» الأعضاء الـ100، ولكن في مراجعة غير مبرّرة، تم تغيير النصّ النهائي من الإعلان الدستوري الذي صدر في نهاية آذار العام الماضي واستخدام كلمة «ينتخب»، وقد حكمت المحكمة، أن هذه الكلمة تعني أنه كان يفترض بالبرلمانيين اختيار أشخاص آخرين، وليس أنفسهم. وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أن القراءة الجريئة للإعلان الدستوري تُضعف مفهوم الحياد السياسي الذي يعتبر أساسياً للسلطة القضائية. كما لم يتمّ حلّ المسألة كاملة.
هل يتمّ حلّ البرلمان أم يوجه الضربة الأولى؟ كان هذا السؤال الثاني الذي تطرق إليه براون في تقريره، لافتاً إلى عدم اكتفاء مجلس الدولة بنقض أهم قرار للبرلمان حتى الآن، بل دعا أيضاً إلى التشكيك في شرعية البرلمان نفسه. وبعد أن أحال المجلس إلى المحكمة الدستورية العليا في البلاد مسألة دستوريّة القانون، بات بإمكان المحكمة الدستورية العليا أن ترسل، بسهولة، أعضاء البرلمان إلى منازلهم خلال الأشهر القليلة المقبلة.
يرتكز الحكم بعدم دستورية البرلمان على واقع النظام الهجين الذي تم بموجبه انتخاب الهيئة، وهو الذي يعتبر بعض المصريين أنه يميّز بشكل غير دستوري ضد المستقلين سياسيا. عندما ذهب المصريون إلى الانتخابات البرلمانية، اقترعوا ببطاقتين. اقترعوا ببطاقة انتخابية على قائمة حزبية، حيث حدّدت تلك الأصوات نتيجة ثلثي المقاعد في البرلمان، وتم الاقتراع بالبطاقة الأخرى على مرشّحين أفراد، والتي أنتجت ما تبقّى من النواب. أتاح نظام الاقتراع الثنائي، الذي كان نتيجة لصفقة سياسية تمت في اللحظات الأخيرة، لأعضاء الحزب التنافس إما كجزء من القوائم الحزبية أو على المقاعد الفردية.
طلب الإعلان الدستوري للعام 2011 من المحكمة الدستورية العليا مراجعة قانون الانتخابات الرئاسية سلفاً، ويتوقّع بعض المراقبين المطلعين أن تجد المحكمة صعوبة في تجنّب إصدار حكم ضد قانون الانتخابات. مع الإشارة إلى أن لحلّ البرلمان الحالي انعكاسات سياسية حادّة قد تقود المحكمة الدستورية العليا إلى إيجاد سبب لمعارضته. إذ يطرح القضاة والمراقبون القضائيون توقّعات متضاربة حول المسار المحتمل للمحكمة الدستورية العليا.
وإذا حلّت المحكمة الدستورية البرلمان قبل الانتخابات الرئاسية، فستثير الشكوك في أن انقلاباً ناعماً يجري الإعداد له، أما إذا جاء الحكم قبل تشكيل الجمعية التأسيسية، فستكون المحكمة الدستورية العليا قد أدخلت البلاد في عقدة دستورية شائكة للغاية. والإعلان الدستوري يتطلّب أن ينتخب «أول برلمان» الجمعية. وإذا تم حلّ تلك الهيئة قبل أن تعمل، فسيتم إقحام العملية الدستورية برمّتها في حيرة وارتباك أعمق. أما إذا ما انتظرت المحكمة الدستورية العليا إلى ما بعد تشكيل البرلمان مرة أخرى، فيمكن اعتبار المخاطر أقلّ.
وفي الجزء الأخير، تناول براون العلاقة بين المحكمة الدستورية العليا واللجنة العليا للانتخابات والنظام السابق، ففي حين يبدو أن مباراة ليّ الأذرع بين المحكمة الدستورية العليا والبرلمان هي العاصفة الأكثر ترجيحاً في الأفق القضائي، يبدو من غير المحتمل أن تشكّك المحكمة الدستورية في أعمال لجنة الانتخابات الرئاسية.
(«السفير»)
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:24 pm من طرف الادارة
» رابط المدونة على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:20 pm من طرف الادارة
» مدونة عربي على الفيسبوك
الأحد سبتمبر 01, 2024 2:19 pm من طرف الادارة
» تأملات
الإثنين أبريل 29, 2019 3:35 am من طرف عربي
» اخر نص ساعة
الإثنين أبريل 29, 2019 3:34 am من طرف عربي
» اختلاف
الإثنين أبريل 29, 2019 3:32 am من طرف عربي
» الاحتلال
الثلاثاء أكتوبر 10, 2017 2:21 am من طرف عربي
» رجال كبار
السبت أغسطس 12, 2017 7:58 pm من طرف عربي
» صراع الحكم في الغابة
السبت يونيو 24, 2017 8:08 am من طرف عربي
» طخ حكي
السبت مايو 20, 2017 4:45 am من طرف عربي